سرقة اللسان

 

كانت جريمةُ العصرِ الكُبرى محاولةَ الاستعمارِ أنْ يَسْرُقَ لسانَ أمَّةٍ أَعرقَ منه في الوجودِ ، وأغنى في الميراثِ الحضاريِّ . والأمُّةُ قد تُمْتَحنُ باحتلالِ أرضِها فَتُناضِلُ من أجلِ الحُريّةِ حتى تَستَرِدّها على المدى القصيرِ أو الطويلِ، وتُمْتَحَنُ باغتصابِ خيراتِ أرضِها وأرزاقِ بنيها فَتَحْمِلُ الجوعَ والحرمانَ ، وتَقتاتُ من أمَلِها المرجوّ في الخلاصِ . بل قد تُحارَبُ في عقيدتِها فيتصدى الضميرُ الشعبيُّ بالرَّفْضِ والتحدي . لكنّها حينَ تُمْتَحنُ بِسَرِقةِ لسانِها تضيعُ . تُمْسَخُ شَخصيتُها القوميَّةُ، وتُبْتَرَ من ماضيها وتراثها وتاريخِها ثُمَّ تَظَلُّ محكوماً عليها بأن تبقى أبداً تحتَ الوصايةِ الفكريّةِوالوجدانية للمُسْتَعْمِرِ حتى بعد أن يَجْلوَ عن أرضِها ، يَشدُّها إليه نوعٌ من الاستعبادِ الفكريِّ ، إذ لا تُجِدُ غيْرَ لسانِه وسيلةً للنُطْقِ والتعبيرِ ، ولا تَلْتَمِسُ في غيرِ مكتبتِهِ زادَها الفكريَّ والأدبيَّ والثّقافيَّ .


وبمضي الزمنُ ويغدو هذا الاستعبادُ القهريُّ ولاءً فكرياً وروحياً لمن كان لها بالأمسِ عَدُّواً ، لطولِ ما نَهَلَ أبناؤها من نَبْعِ أدبِهِ وفِكْرِهِ وانحصروا في فَلَكِهِ، لا يرون الدنيا إلاّ بعينِهِ، ولا يحسونَ طَعْمَ الحياةِ إلاّ بمذاقِهِ، ولا يَخْفِقُ وجدانَهُم إلا بِنَبضِهِ. وهم بِحُكْمِ ثِقافَتِهم العاليةِ يشغلون مراكزَ التوجيهِ والقيادةِ للرأيّ العامِ ، وعن طريقهِم يَتَسَلَّطُ الغزوُ الفكريُّ على الشعبِ الذي رَفَضَ وجودَ المُسْتَعْمِرِ. وكثيراً ما يتصدَّون لمحاربةِ الذين صانوا لِسانَهُمْ القوميَّ واعتزوا بثقافَتِهِم الأصليةِ ، فيتصدعُ الكيانُ الوطنيُّ من أثَرِ الصِدامِ المريرِ بينَ دُعاةِ الأصالةِ يَتهِمون المتفرنجينِ بالمروقِ والعُقوق ِوالكُفْرِ، ودُعاةُ الثقافةِ الأجنبيةِ يتهمونَ خُصومَهُمْ بالرجعيةِ والجمودِ ، ويرونَ فيها هياكِلَ من حفرياتِ عصورٍ غابرةٍ .

 

(بنت الشاطئ)

اكتبوا لنا ملاحظاتكم واستفساراتكم

تحرير : المدرسة العربية  www.schoolarabia.net

اعداد : المدرسة العربية

المصدر (بتصرف) : نحو تعليم اللغة العربية وظيفياً

د. دواد عبده ، دار الكرمل ، ط2 ، 1990

تاريخ التحديث : كانون الثاني 2003

Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية