أَبَدُ الصُبَّار

محمود درويش

 ثانياً : دراسة النص

يعرض الشاعر عبر رحلة الشقاء الفلسطيني مشاهد عن المعاناة المتجددة والدائمة التي كتبت على شعبه ، والتي صارت بحكم التكرار والتجدد جزءاً من سيرة أي مواطن فلسطيني – في أرضه – او في المنافي القسرية ، ففي المشهد الأول

 

إلى أين تأخُذُني يا أَبي ؟

إلى جِهَةِ الريحِ يا وَلَدي … 

 

 يبوح الشاعر بتساؤل الإبن الذي تعوّد وأسرته الرحيل الدائم ،عن وجهة هذا الرحيل هذه المرّة .. ولأنّ الأب لا يعلم على وجه التحديد الجهة التي سيقصدها ، فإنه يبقي الإجابة غامضة فهما يتجهان  صوب الريح ، صوب المجهول !

 

وتستمر الرّحلة ، رحلة أي فلسطيني وأبنائه ، قديماً وحديثاً و التي ربما شاهدوا في إحداها  ، أحد التحصينات التي أقامها جنود نابليون في نهاية القرن الثامن عشر عند غزوهم فلسطين وحصارهم مدينة عكا التي استعصت عليهم ، ولأنّ الأب ذو خبرة بأشكال الغزو وبأهداف الغزاة ، فهو يطمئن ابنه ألا يخاف من المظاهر العسكرية ، وأنه لن يُصابَ بأذى ، إذا ما التصق بتراب الوطن وظلّ وفياً لأرضه ، الّتي سيندحر عنها الغازي ، ويعود إلى بلاده التي قدم منها !

 

... وَهُما يَخْرجانِ مِنَ السَهْل ، حَيْثُ 

أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ

الظلال على سور عَكََّا القديم -

 

يقولُ  أَبٌ لابِنِه : لا تَخَفْ . لا

تخف من أَزيز الرصاص ! التصِقْ  

بالتراب لتنجو ! سننجو ونعلو على 

جَبَلٍ في الشمال ، ونرجعُ حين 

يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد .

 

 

 لكن الإبن يبدي قلقاً مشروعاً حيال الوطن الذي أجبر أهله على تركه عنوة ، والذي رمز له بالبيت في القصيدة ، فيكون جواب الأب في غاية البساطة : سيبقى – الوطن – البيت على حاله ، أبياً عصياً  على استقبال غير أهله على ترابه .

 

 ومن يسكُنُ البَيْتَ من بعدنا

 يا أَبي ؟

 سيبقى على حاله مثلما كان

 يا ولدي ! 

 

ويبدو أنّ قلق الإبن ، قد تسرب منه شيء إلى الأب ، فتنبه إلى وجود مفتاح البيت في جيبه ، فراح يتفقده كما يتفقد أي عضو من اعضائه كي يطمئن إلى بقائه في مكانه ، ولمّا اطمأن إلى وجوده في جيبه ، أراد أن يهدىء من روع ابنه ، ويعلّمه مزيداً من الصبر ، حيث يعيد على مسامعه كيف صلب الإنجليز الذين احتلوا فلسطين في عشرينيات القرن العشرين – توطئة لإقامة الوطن الجديد لليهود في فلسطين – أباه، وغيره من مواطني فلسطين على شوك شجيرات الصبر مدة  ليلتين ، كي يعترف عن الثوار الذين قاوموا الإحتلال  البريطاني ، ويمني نفسه بانّ إبنه سيكون صلباً مثل أبيه وأبناء شعبه ، وسيروي للقادمين من بعده دروس المقاومة والصبر وعدم الإذعان .

 

تَحَسَّسَ مفتاحَهُ مثلما يتحسَّسُ

أَعضاءه، واطمأنَّ . و قال لَهُ

وهما يعبران سياجاً من الشوكِ :

يا ابني تذكَّرْ! هنا صَلَبَ الانجليزُ

أَباك على شَوْك صُبَّارة ليلتين ،

ولم يعترف أَبداً . سوف تكبر يا

ابني ، وتروي لمن يرثون بنادقهم

سيرة الدم فوق الحديد ....

 

 

وفي مشهد لاحق يطرح الإبن على أبيه سؤالاً آخر حول الحصان الأصيل ، الذي ترك وحيداً في ساحة الدّار ، ويرتد جواب الأب سريعاً ومباشراً : ليؤنس وحشة البيت ! فهو من أصحابها.

ولأنّ البيوت تموت – كما البشر – إذا تخلّى عنها سكانها ، ولم يبقوا على من يؤنسها بعدهم!

 

- لماذا تركتَ الحصان و حيداً ؟

- لكي يُؤنسَ البيتَ ، يا ولدي ،

فالبيوتُ تموت إذا غاب سٌكَّانٌها ...

 

وتستمر مشاهد الأسى والعذابات الدائمة , والأفق المفتوح على كل ما يخبأ من فواجع لشعب  فلسطين ، ففي المقطع الخامس

 

تفتحُ الأبديَّةُ  أَبوابها ، من بعيد ،

لسيَّارة الليل . تعوي ذئابُ

البراري على قَمَرٍ خائفٍ . و يقولُ

أَب لابنه : كُنْ قوياً كجدِّك!

وأَصعَدْ معي تلَّة السنديان الأخيرةَ

يا ابني ، تذكَّرْ : هنا وقع الانكشاريُّ

عن بَغْلَةِ الحرب ، فاصمُدْ معي

لنعودْ .

 

رواية جديدة من سيرة هذا الشعب ، وذاك البلد . فالطامعون في أرضه ما زالوا يغذون الخطى نحو احتلاله ، وأصوات عوائهم تعلو تحت ضوء قمر يكاد يرتعد من عوائهم . لكن تلك الجلبة وذاك العواء . لم يفتَّ في عضد الأب ، حيث يشد من عزم ابنه على الشجاعة والمقاومة ، ويأمره بأن يكون قوياً كأجداده من بني كنعان وأن يصعد معه إلى تلة السنديان ، ليذكره بما حدث للجندي الإنكشاري الذي هزم على أرض فلسطين ، ويوصيه أن يصبر و يصمد حتى يعود من تشرد من  شعبه . ويسأله ابنه : متى سيكون ذلك ؟ فيكون جواب الأب : ربما كان ذلك غداً أو بعد يومين !

- متى با أَبي ؟

- غداً . ربما بعد يومين با ابني  !

 

 

اكتبوا لنا ملاحظاتكم واستفساراتكم

تحرير : المدرسة العربية  www.schoolarabia.net

اعداد : أ. وليد جابر

 

تاريخ التحديث : آذار 2004

Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية