المُربي المرحوم : خليل السكاكيني

 

( 4  )

زرت مدرسة حيفا الثانوية ، فألقى علينا أحد الطلاب قصيدة ابن الرومي في الحمّال وهي :

رأيت حمّالاً مُبينَ العمى               يعثرُ في الأكمِ وفي الوَهدِ

محتملاً ثِقْلاً على ظهره               تعجز عنه قوة الجلْدِ

بين جِمالاتٍ وأشباهها                من بَشَرٍ ناموا عن المجدِ

وكلهم يصدمه عامداً                  أو تائهَ اللبِّ بلا عمدِ

والبائس المسكين مستسلم            أذلُّ للمكروه من عبد

وما اشتهى ذاك ، ولكنه              فرّ من اللؤم إلى الجهدِ

فأحسن إلقاءها .  

 

قلت لا تحيا اللغة إذا عرفنا ألفاظها وأحكامها ، وإنما تحيا إذا استعملناها في التعبير عن عاطفة أو فكر ، فإذا أخذنا قوله :

 والبائس المسكين مستسلم            أذل للمكروه من عبدِ

 

فإن ألفاظ هذا البيت لا تكون حية إلا إذا كانت صدى رحمة ، لو كررناها مئات من المرات من غير أن تفيض صدورنا بالرحمة لكانت ألفاظاً ميتة لا حياة فيها .

 

إن الشاعر حين وصل إلى هذا البيت من قصيدته جاشت نفسه بالرحمة ، فتهدج صوته ، واغرورقت عيناه بالدموع ، ثم قرأت القصيدة كلها ، ولما وصلت إلى هذا البيت رققت صوتي ، فتأثر الطلاب كثيراً ، ثم كلفت أحدهم أن يقرأ القصيدة ، فما وصل إلى هذا البيت إلا تهدج صوته في غير تكلف ، حتى كادت تخنق صوته العبرة ، فأحسست ان هذه الألفاظ قد عادت إليها الحياة حين تنبهت عاطفة الرحمة في صدور الطلاب .

 

ثم انتقلت إلى البيت الأخير ، وأعرته اهتماماً كبيراً ، قلت :

من شرور هذا العالم التي يحاول دعاة الإصلاح إزالتها شران :

الأول أن الإنسان لا يعمل إلا خوفاً من الجوع .

الثاني أنه قد يعمل ما لا يشتهي أن يعمله .

 

انظروا إلى هذا الحمال الأعمى ، ما الذي اضطره أن يحمل هذا الحمل الثقيل الذي تعجز عنه قوة الجَلْد ، وأن يمشي في الأكم وفي الوهد ، في طريق كثيرة الازدحام بالبهائم والبشر الذي هم أشبه بالبهائم ، وكلهم يصدمه عامداً أو بلا عمد ، ما الذي اضطره إلى هذا العمل ؟ أليس خوفه من الجوع ؟ لولا خوفه من الجوع لما عمل ، وإذا لم يكن بدٌّ من العمل فقد كان من الممكن أن يختار عملاً آخر .

 

دعاة الإصلاح يحاولون جهدهم أن يجعلوا الإنسان يعمل لا خوفاً من جوع ، ولكن حبّاً للعمل وخدمة الإنسانية ، أما الأعمال الشاقة ، أو القذرة الدنيئة التي لا بد أن يكون لها عامل فإنهم يحاولون أن يغروا العامل بها إغراءً بأن يخفضوا ساعات العمل فيها إلى الحد الأدنى من جهة ، وأن يرفعوا الأجر فيها إلى حدٍ عالٍ من جهة أخرى.

 

لا خوف من الجوع عملنا أم لم نعمل ، ولا نعمل إلا مختارين لا مكرهين .

 

ثم انتقلت إلى كلمة لؤم ، فقلت :

الأمة العربية كريمة تكره اللؤم ، الكريم هو الذي يبذل ، هو الذي يساعد ، هو الذي يعفو ، هو الذي يكره الظلم ، واللئيم هو الذي لا يهتم إلا بنفسه ، لا يُبالي أن يستريح وغيره يتعب ، أن يأكل وغيره يجوع ، أن يسلم وغيره يتألم ، هو الذي يقابل الإحسان بالإساءة ، هو الذي يكون ملحه على أذياله كما يقولون ، هو الذي ينسى الإحسان ، ويذكر الإساءة كما قال اليازجي الكبير :

ينسى من المحسن طوداً قد رسا               وليس ينسى ذرةً ممن اسا

 

هو الذي إذا أحسن قليلاً ابتع إحسانه القليل بالمن والأذى .

 

نحمد الله أيها الفتيان أننا من الأمة العربية الكريمة ، قولوا معي لتحيَ الامة العربية .

 

في 10 / 1 / 1935

 

اكتبوا لنا ملاحظاتكم واستفساراتكم

تحرير : المدرسة العربية  www.schoolarabia.net

اعداد : المدرسة العربية

المصدر : المجموعة الكاملة لمؤلفات السكاكيني

تاريخ التحديث : حزيران 2003

Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية